مبادئ “مؤتمر العدالة الانتقالية”: محاولة غير مضمونة للقطيعة مع ثقافة الإفلات من العقاب في السودان
يتمسك ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في السودان بأهداف العدالة الانتقالية، المتمثلة في إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب وسيادة حكم القانون.
هذا التمسك، جاء خلال مؤتمر خاص بالعدالة والعدالة الانتقالية، عُقد في الخرطوم في الفترة بين 16 و20 مارس/آذار الحالي، ضمن أعمال المرحلة النهائية للعملية السياسية بين العسكريين والمدنيين، لإنهاء حالة انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وهي العملية المؤمل في نهايتها التوصل إلى اتفاق نهائي، وصياغة دستور انتقالي جديد للبلاد، ومن ثم تشكيل حكومة مدنية كاملة وعودة العسكر إلى ثكناتهم.
وشارك في المؤتمر نحو 600 شخص، غالبيتهم من ممثلي ضحايا الحروب في غرب وجنوب وشرق البلاد، وكذلك ممثلون لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق أخرى، وممثلون عن أسر ضحايا الثورة السودانية. إضافة إلى هؤلاء، شارك موقّعون على الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر/كانون الأول الماضي، والذي وضع أساساً للتسوية السياسية بين المدنيين والعسكر، فيما جاء خبراء وقانونيون سودانيون، وآخرون غير سودانيين، لعرض تجارب بلدانهم في مجال العدالة والعدالة الانتقالية.
تحديات التسوية السياسية في السودان
ويُعد موضوع العدالة واحداً من أهم تحديات التسوية السياسية الراهنة بين العسكر والمدنيين، لجهة إصرار أسر ضحايا الثورة من القتلى والجرحى والمفقودين وإصرار الثوار، على عدم السماح بإفلات المتورطين في الجرائم من العقاب، بمن فيهم قادة انقلاب 25 أكتوبر 2021. ويُتهم هؤلاء من قبل أسر الضحايا بجملة من الحوادث، أبرزها فض اعتصام محيط قيادة الجيش في 3 يونيو/حزيران 2019 والذي أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 100 شخص، وكذلك عمليات القتل التي طاولت المتظاهرين السلميين المناوئين لانقلاب 25 أكتوبر، والذين وصل عددهم إلى أكثر من 125 شخصاً.
كما تصر أسر ضحايا الحروب والنزاعات المختلفة على أن تضم التسوية الحالية قضاياهم وإن طال أمد الجرائم، مثل ضحايا إقليم دارفور الذي قُتل فيه أكثر من 200 ألف شخص خلال الحرب الأهلية، طبقاً لتقديرات منظمات دولية. وتردد عدد كبير من التنظيمات السياسية ولجان المقاومة السودانية في المشاركة في عملية التسوية السياسية، لكونها تفتح الطريق للعفو عن الانقلابيين.
المؤتمر الذي دعت إلى تنظيمه الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والهيئة الحكومية للتنمية “ايغاد”، ناقش جملة من أوراق العمل، واستمع إلى تجارب الدول الأخرى في تحقيق العدالة، وتوصل بعد 5 أيام من الانعقاد إلى إعلان مبادئ حول العدالة والعدالة الانتقالية.
شدد أول المبادئ على أن الوسيلة المثلى للتحوّل الديمقراطي والاستقرار السياسي وسيادة حكم القانون تكمن في توفر إرادة سياسية وقبول مجتمعي وتدابير تشريعية وقضائية ودور فاعل للمجتمع المدني تجاه طيّ صفحات الماضي، من خلال محاسبة منتهكي حقوق الإنسان ووضع تدابير تحقيق العدالة والمساءلة والإنصاف، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر، وتهيئة المناخ حتى لا تتكرر الجرائم في المستقبل، وحتى تتحقق مصالحة شاملة على أسس عدم الإفلات من العقاب والإنصاف والعدالة.
اقترح المؤتمر المساءلة الجنائية عبر الآليات القضائية الوطنية والدولية والمختلطة، مع تأكيد أهمية التعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية
واقترح المؤتمر المساءلة الجنائية عبر الآليات القضائية الوطنية والدولية والمختلطة، مع تأكيد أهمية التعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية والامتثال لطلباتها في تسليم المطلوبين، وتأكيد عدم الإفلات من العقاب، ومحاسبة كل من ارتكب جرائم أو انتهاكات لحقوق الإنسان مهما كان موقعه، وعدم الاعتداد بالحصانات الإجرائية والموضوعية، ولا بحجة تنفيذ الأوامر.
كما طالب المؤتمرون بتشكيل حكومة مدنية ديمقراطية ملتزمة بمقاصد ثورة ديسمبر، ولها إرادة سياسية واستراتيجية واضحة لتنفيذ العدالة والعدالة الانتقالية، وتلتزم برعاية أسر الضحايا وكافة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد، وعلاج الجرحى والمصابين، وأن تعمل على رفع الظلم وجبر الضرر الذي وقع على ضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
واقترح إعلان المبادئ، إنشاء مفوضية العدالة الانتقالية المستقلة بسلطات واسعة تعمل باستقلالية تامة وبمعزل عن الجهاز التنفيذي والسيادي، على أن يتم إدراج المعايير الخاصة باختيار عضوية المفوضية وفقاً لقانون العدالة الانتقالية.
كذلك تبنّي نموذج سوداني نابع من رؤية مشتركة للضحايا والمجتمع المدني والفاعلين السياسيين، على أن يحدد القانون أشكال ومستويات العدالة الانتقالية من محاكم خاصة وعدالة عرفية وغيرها من وسائل العدالة، بما فيها العدالة الجنائية الدولية، مع مراعاة مبادئ تكامل الآليات ولجان للعدالة والمصالحة لكشف الحقيقة والوثائق والقبور والاعتراف بالجرائم والاعتذار عنها والعفو وتنقية الحياة العامة وبناء عقد اجتماعي جديد بين السودانيين.
وجاء في إعلان المبادئ أيضاً، أن العدالة الانتقالية تعتبر عمليات متكاملة ومستمرة تشمل محاكمات المجرمين والتعويض وإعادة الاعتبار للضحايا، وإعادة هيكلة المؤسسات العدلية والإصلاح القانوني والإصلاح الأمني والعسكري وتخليد الذكرى لحفظ الذاكرة الوطنية، والحؤول دون تكرار الجرائم مرة أخرى، وعدم الإفلات من العقاب وفق مبادرات الملاحقات القضائية، وإضفاء مزيد من الشفافية في كل عمليات العدالة الانتقالية.
وحث الإعلان الدولة على الاعتراف بانتهاكات الماضي الجسيمة لحقوق الإنسان عبر الحقب التاريخية، والاعتذار الرسمي عنها لتأسيس إرادة سياسية للمصالحة الوطنية. وحذر من منح أي عفو يخالف مبادئ ومعايير القانون الدولي، ويشمل ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. كما لا يجوز منح عفو يمس حق الضحايا في التماس العدالة بالطرق التي يرونها، أو يمس حقهم في طلب جبر الضرر.
وبشأن المرأة، أوصى إعلان المبادئ بالوقف الفوري لكافة أشكال الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة السودانية من تعنيف وتعذيب واغتصاب وإذلال وزواج قسري وتمييز بنيوي، واستعجال إنشاء مفوضية المرأة، على أن يتم تحديد علاقتها بمفوضية العدالة الانتقالية.
مخاوف من مساومات تمنع المحاسبة
لكن كشة عبد السلام، وهو والد عبد السلام أحد ضحايا حادثة فض اعتصام محيط قيادة الجيش عام 2019، لا يلقي أي بال بمؤتمر العدالة ولا مخرجاته ولا إعلان مبادئه. ويجزم، في حديث مع “العربي الجديد”، بفشله وعدم جدواه في تحقيق القصاص العادل لضحايا الثورة والإبادة الجماعية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، معتبراً أن المشاركين لا يمثلون الضحايا “إنما هم عملاء يتقربون بمؤتمرهم هذا للعسكر الانقلابيين ويتسلقون السلطة، وكل التعثر الحاصل الآن من أزمات اقتصادية وأمنية سببه عدم تحقيق العدالة”.
ويحذر عبد السلام من أي محاولات للصفح والعفو عن القتلة، “لأنه سيكون إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق”، مضيفاً أنه “لا مجال لأن يفلت المجرمون من العقاب، طال الزمن أم قصر”. كما ينبّه من تكرار تجربة تشكيل لجنة وطنية للتحقيق في جرائم الانتهاكات الجسيمة ضد حقوق الإنسان، مؤكداً أنهم كأسر ضحايا يراهنون على استمرار الثورة حتى تبلغ سدرة منتهاها وتنجح في يوم ما في القصاص للضحايا.
ينبّه والد أحد الضحايا من تكرار تجربة تشكيل لجنة وطنية للتحقيق في جرائم الانتهاكات الجسيمة ضد حقوق الإنسان
ويرى استحالة تنفيذ عدالة في الواقع الحالي الذي يعيّن فيه قائد الانقلاب، رئيس القضاء والنائب العام، ويعيّن قريبه مديراً للشرطة، مستهجناً التسوية والحوار الذي يقوده من أطلق عليهم “عبدة الكراسي” مع الانقلابيين على حساب من مهروا دمائهم نصرة للثورة ومبادئها في الحرية والسلام والعدالة، وفق قوله.
في المقابل، تقول إيمان إسماعيل، والدة قصي، أحد ضحايا الثورة، إنها ترحب ولو بخطوة واحدة في طريق تحقيق العدالة مثل التوقيع على الاتفاق الإطاري وإعلان المبادئ الصادر من مؤتمر العدالة والعدالة الانتقالية، انتظاراً لخطوات أخرى، خصوصاً إذا كان ذلك يحدث في إطار أوسع يجنّب البلاد أزمات ويؤسس لحوار بين السودانيين بعضهم البعض لمناقشة قضاياهم الملحة والضرورية.
وحول ما دار في المؤتمر من مقترحات بالعفو والصفح، تقول إسماعيل لـ”العربي الجديد” إنها تتحدث باسمها وليس باسم أسر الضحايا، وإنها لم تحرك إجراءات قانونية حتى الآن بعد مقتل ابنها قصي، ولم تبحث بعد عن قاتله، وهي مع أي اتجاه يضمن تحقيق المبادئ التي قُتل من أجلها ابنها، والمتمثلة في الحرية والسلام والعدالة. وتضيف أنه متى ما فشلت تلك المساعي فالطريق أمامها متاحة للعودة مع غيرها إلى الشوارع مرة أخرى، مشيرة إلى أنها لا تساند التمترس في مواقف صلبة إلى ما لا نهاية.
بين التشكيك ووعود المحاسبة
وبعيداً عن الضحايا، وعلى الصعيد السياسي، يقول محمد عبد الرحمن الناير، المتحدث الرسمي باسم “حركة تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد محمد نور، وهي واحدة من الحركات التي لم توقّع اتفاق سلام، إن ما سُمي بمؤتمر العدالة والعدالة الانتقالية هو تزييف وسرقة لإرادة الضحايا الحقيقيين الذين رفضوا تلك الورش والمؤتمرات عبر بيانات صدرت عن ممثليهم. ويضيف أن الهدف من المؤتمر يكمن في استغلال تلك القضايا كروافع سياسية لتمرير الشراكة الجديدة واستكمال التطبيع مع الانقلاب.
ويشير الناير، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن القوى السياسية الموقّعة على الاتفاق الإطاري جرّبها الشعب السوداني في حكومة عبدالله حمدوك الأولى وحكومة قوى “إعلان الحرية والتغيير” الثانية قبل انقلاب عبد الفتاح البرهان، وفشلت في محاكمة أي مجرم أو تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، أو إبداء أي رغبة حقيقية في تسليم هؤلاء المطلوبين.
ويتابع أن هذه القوى لم تُحاكم قتلة الثوار في جريمة مذبحة القيادة العامة في الخرطوم والمدن الأخرى، وهذا دليل كافٍ على أن إقرار العدالة ومحاسبة المجرمين ليست في أجندتها. وينبّه الناير إلى تصريحات وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري حول حصانة العسكر من الملاحقة الجنائية “كدليل آخر على أن الاتفاق الإطاري، ما هو إلا مساومة رخيصة على دماء الشهداء والعدالة مقابل السلطة وإعفاء العسكريين من جرائمهم”، وفق قوله.
الناير: الجرائم لا تسقط بالتقادم، وليست هناك أي جهة في العالم لها الحق في إعفاء المجرمين من المحاسبة والمساءلة
ويضيف أن “تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم، وليست هناك أي جهة في العالم لها الحق في إعفاء المجرمين من المحاسبة والمساءلة، وسيأتي يوم تنتصر فيه إرادة الشعب ويسقط الانقلاب وكل مكوناته المدنية والعسكرية، وسوف يحاكمون جميعاً على جرائمهم وتواطئهم ومشاركتهم في وأد الثورة وبيع دماء الشهداء”.
لكن القيادي في “قوى الحرية والتغيير”، الريح محمد الصادق، ينفي تماماً وجود أي توصية من قبل مؤتمر العدالة تتعلق بالعفو عن المتورطين، مشيراً إلى أن مخرجات المؤتمر في مجملها جيدة جداً لكنها ليست النهاية، لأن المطلوب بعدها هو وضع مصفوفة أو خريطة طريق لتنفيذ التوصيات بإنشاء مؤسسات العدالة وإعداد القوانين واتخاذ كل الإجراءات التي تضمن عدم تكرار الجرائم، وبناء نموذج سوداني خاص بالعدالة الانتقالية.
ويوضح الصادق، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن الموضوع كذلك لا يزال بحاجة للتشاور وأخذ رأي أصحاب المصلحة، حتى تصاغ فكرة نهائية، مشدداً على عدم وجود توجّه للعفو عن المتورطين، أياً كانوا، وهي مرحلة لم يصل إليها الناس بعد، لأنها تأتي بعد كشف الحقيقة وتقديم المتهمين للمحاكمة الجنائية، ليقرر بعدها أولياء الدم التنازل والعفو أو القصاص، مع برامج اجتماعية لتبرئة الجراح.
ويشير إلى أن “كل توصيات المؤتمر سيتم تكييفها دستورياً وقانونياً، وبعضه من ضمن برنامج الحكومة الانتقالية، وكل شيء يرسخ لعدم الإفلات من العقاب”.
العربي الجديد