ما مستقبل “الاتفاق الإطاري” في السودان؟
الحرية والتغيير أمام خياران أحلاهما مر إما توسيع الاتفاق أو الاعتماد على أطراف دولية لتمريره
أماني الطويل
يشكل الاتفاق الإطاري في السودان المنصة التي يفترض أن تؤسس لفترة انتقال مستقرة تمهد لانتخابات منوط بها بناء شرعية سياسية جديدة، وهو الاتفاق السياسي الذي جرى التوصل إليه والتوقيع عليه في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) الماضي بعد فترة طويلة من الاضطراب السياسي تمتد إلى أربع سنوات تقريباً، تخللتها بلورة توافقات سياسية ودستورية جرى التراجع عنها، كما تخللتها تحالفات سياسية متحركة وغير مستقرة بين مختلف القوى السياسية، كما يظللها حالياً نوع من أنواع التنافس الخطر بين المكونين العسكريين الرئيسين في السودان، وهما القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
ولعل مشهد مخاطبة الرأي العام السوداني والفضاءين الإقليمي والدولي من جانب كل من رئيس مجلس السيادة السوداني القائد العام للقوات المسلحة ونائبه محمد حمدان دقلو في توقيت واحد واتجاهين متضادين، مؤشر رئيس في شأن الحال الراهنة في السودان.
وعلى ضوء هذا المشهد السوداني المضطرب نحاول تقديم قراءة لمستقبل هذا الاتفاق في ضوء موقف الأطراف المختلفة منه.
مواقف الأطراف السودانية
يبدو “تحالف الحرية والتغيير المركزي” أكثر الأطراف تفاؤلاً في هذه المرحلة، إذ يعلن أجندة لتنفيذ الاتفاق الإطاري بدءاً من موعد توقيع الاتفاق النهائي ونهاية بتكوين الحكومة المدنية، رغم عدم الاتفاق على أحد أهم القضايا الحساسة وهي العدالة الانتقالية المرتبطة بالمكون العسكري، وقد يكون هذا التحالف معتمداً في إعلان هذه الأجندة على أمرين، الأول أن هناك تفاهماً يقولون إنه مكتوب لكن غير معلن عنه بينهم وبين رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان في شأن القوى أصحاب المصلحة التي يحق لها التوقيع على الاتفاق الإطاري، ومن ثم يكون هؤلاء هم الفاعلون الرئيسون في المعادلة السياسية المستقبلية المترتبة على الاتفاق الإطاري.
أما الأمر الثاني فهو طبيعة الدفع الدولي وراء الاتفاق الإطاري في هذه المرحلة، خصوصاً تهديد واشنطن بتوقيع عقوبات حتى ولو فردية تقع على أشخاص بعينهم من القوى المناوئة أو المعطلة للاتفاق النهائي، وربما هذا ما يفسر احتشاد كل ممثلي ومبعوثي الدول الكبرى في السودان خلال الأسبوع الأول من فبراير (شباط) الماضي.
الطرف الأساس الثاني في الاتفاق الإطاري هو المكون العسكري، وهنا نلحظ تبايناً واضحاً بين مواقف طرفيه وهما القائد العام للقوات المسلحة رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان ونائبه رئيس قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، ذلك أن الأول طبقاً لآخر تصريحاته في كردفان لن يسلم السلطة لقوى مدنية منقسمة بحسب تقديره، ويطالب بتوسيع الاتفاق الإطاري ليشمل مشاركة كل القوى السياسية السودانية، وهو مطلب يجد رفضاً قوياً من “تحالف الحرية والتغيير” الذي يعتبر نفسه صوت الثورة السودانية، وهو رفض مؤسس على أن مشاركة هذه القوى التي يطالب البرهان بمشاركتها قد ضعضعت المكون المدني وأضعفته حينما شكلت حاضنة سياسية للبرهان في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، حين أسقط الوثيقة الدستورية والشراكة بين المدنيين والعسكريين التي جرى تأسيسها بين الطرفين في أغسطس (آب) 2019.
وطبقاً لذلك فهي غير جديرة بالإلحاق بالاتفاق الإطاري لسببين، الأول أن ذلك يشكل عملية إغراق سياسي تعوق تحقيق تحول ديمقراطي يمتلك صدقية، والثاني أن التحاق هؤلاء بالاتفاق يعني وصم الحرية والتغيير أمام لجان المقاومة الشبابية، وهي قوى الضغط الأساس في الشارع ضد محاولات الالتفاف على أهداف الثورة السودانية، خصوصاً أن القائمة الأخيرة التي قدمها حاكم دارفور منياوي للحرية والتغيير للانضمام إلى الاتفاق الإطاري جرى تصنيفها أن جلها من رموز نظام البشير وقوى النظام القديم.
أما الرجل الثاني في المكون العسكري حميدتي فهو يدعم حالياً الاتفاق الإطاري نظرياً، إذ يقدم نفسه للسياق الدولي الداعم للاتفاق كطرف يمكن الاعتماد عليه سياسياً، ويتفادى ممارسة ضغوط مميتة عليه في عملية الإصلاح الأمني المرتبط بعملية إدماج قواته في القوات المسلحة السودانية، وهو ما يعلن أنه مستعد له، لكنه على المستوى الإجرائي الفعلي يقاومها ويختلق المشكلات في وجهها، ومن ذلك ممارسته تراشقاً مع البرهان واتهامه بالتمسك بالسلطة من دون تسمية الأخير، وهو التراشق الذي أسهم في رفع مستويات التوتر في العاصمة الخرطوم لدرجة استدعاء قوات من خارج العاصمة السودانية، ووجود توقعات بإمكان وقوع اشتباكات مسلحة بين الطرفين.
وأهم القوى غير الموقعة على الاتفاق الإطاري هو ما يطلق عليه “الكتلة الديمقراطية”، وهي كتلة قوامها الرئيس ثلاثة أطراف، قسم من الحزب الاتحادي الأصل برئاسة جعفر الميرغني الذي حصل على مبايعة أبيه مولانا محمد عثمان الميرغني، ووزير المالية في آخر حكومة سودانية جبريل إبراهيم، وحاكم دارفور في الحكومة ذاتها منو أركو ميناوي، والاثنين حالياً يرتكزان في وزنهما السياسي على عاملين، أحدهما سياسي والآخر اقتصادي، أما العامل السياسي فهو علاقات مميزة بقوى الإسلام السياسي السودانية الممثلة لنظام البشير والتي تملك مفاصل اقتصادية مهمة في الدولة السودانية، وذلك على اعتبار أن جبريل إبراهيم هو قائد لقوات العدل والمساواة في دارفور التي انتمت تاريخياً لتيار الإسلام السياسي، أما العامل الاقتصادي فهو بناء قدرات اقتصادية جارية حالياً لمصلحة كل من جبريل ومناوي بهدف تمكينهما من التأثير في المعادلة الراهنة والمعادلة المستقبلية المرتبطة بالانتخابات.
ويبدو أن هذا الأداء يجد ضوءاً من سلطة الأمر الواقع الحالية، ولعل إشارة عضو المجلس السيادي الفريق ياسر العطا أخيراً تشكل مؤشراً إلى هذا الضوء، وهو الداعي في تصريحاته إلى ضرورة إدماج قوى الإسلام السياسي في المعادلة السياسية المستقبلية حتى وبالتدريج.
أما قوى النظام القديم وجلها من تيار الإسلام السياسي فتقف ضد الاتفاق الإطاري، ذلك أن بند إزالة التمكين للنظام القديم وخصوصاً في المفاصل الاقتصادية للدولة يعني إصابة مصالح هؤلاء في مقتل، خصوصاً أن أداء لجنة التمكين الأولى جاء معيباً وعشوائياً وتسبب في توترات سياسية واجتماعية عميقة، ولعل ذلك ما يفسر البلورة التنظيمية الأخيرة التي أعلنها هذا التيار أخيراً في قاعة الصداقة بالخرطوم تحت عنوان “حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”، ولعل تحليل مضمون الخطاب الرئيس في هذا المؤتمر يؤكد عدداً من النقاط.
الأول هو استعداء الجمهور العام ضد التدخل الدولي في السودان واتهام القوى المدنية بالارتهان للأطراف الدولية ووصمها بأنها مجرد “فئات وأقليات مغتربة عن حكم البلاد”، بل ووصم هذا الخطاب أيضاً الثورة السودانية ونعتها بأنها “بلا برنامج وطني ولا رؤية ولا نظرية ثورية وطنية”، وهو أمر يمكن فهمه في سياق أن هذه الثورة قد أطاحت حكم هذه النخب من مفاصل الحكم.
والخطر في هذا الخطاب أنه تحريضي ضد رموز القوى المدنية والقوى الدولية معاً، وربما هذا ما يفسر الاحتقان المتصاعد ضد رئيس البعثة الأممية فولكر بيرتس وتهديده بالقتل طبقاً لما أعلنه الرجل، وأيضاً يفسر ظهور عمليات الاغتيال أو الاغتصاب الممنهج ضد رموز سياسية سودانية.
كيف ينجو “الإطاري”؟
وفي ضوء مواقف الأطراف السودانية الراهنة من الاتفاق الإطاري تبدو شروط استمرار هذا الاتفاق مرهونة بأمرين رئيسين، الأول ممارسة الأطراف الدولية ضغوطاً كبيرة للمضي قدماً لتحويل هذا الاتفاق إلى واقع سياسي، لكن التحدي الرئيس هنا هو أن الأطراف الدولية المختلفة قد تجد خطورة في التخلي نهائياً عن رئيس المجلس السيادي والقائد العام للقوات المسلحة عبدالفتاح البرهان أو ممارسة ضغوط كبيرة عليه، وهو الذي يرهن المضي قدماً في تفعيل “الإطاري” بتوقيع كل القوى السياسية، وأسباب هذه الخطورة أن القوات المسلحة السودانية لا تزال على رغم ضعفها تشكل أحد شروط استمرار مؤسسة الدولة السودانية، وهو هدف مطلوب على المستويين الدولي والإقليمي .
أما المسألة الثانية فهي أن ما يطالب به البرهان على المستوى النظري قد يكون مقبولاً من الأطراف الدولية، إذا كانت الغاية النهائية هي تحقيق استقرار سياسي ولو شكلياً، ففي التحليل الأخير هناك عدد من المعطيات لا بد من الانتباه إليها، وهي أن هذه الأطراف لا يهمها تحقيق أهداف الثورة السودانية كاملة، وثانياً أن بعض هذه الأطراف تسعى حالياً في بلد مثل مصر إلى أن تكون تيارات الإسلام السياسي طرفاً في المعادلات السياسية، وبالتالي فلن تمانع كثيراً أن تكون مشاركة في السودان، وثالثاً أن تيار الإسلام السياسي شاء من شاء وأبى من أبى قوى اجتماعية موجودة ووازنة في السودان اعتماداً على مقدراتها الاقتصادية.
وفي هذا السياق تبدو الضغوط متصاعدة على قوى “تحالف الحرية والتغيير المركزي”، فأمامها في اللحظة الراهنة خياران أحلاهما مر، إما القبول بتوسيع الاتفاق الإطاري كما يطالب رئيس المجلس السيادي وبالتالي قبول قوى سياسية ستكون غير مخلصة لأهداف التحول الديمقراطي كاملة، ويكون عليها تحمل الكلفة السياسية السلبية أمام الشارع الشبابي والحزب الشيوعي القائد لفكرة عدم الشراكة مع العسكريين، أو الاعتماد على الأطراف الدولية فقط لتمرير الاتفاق الإطاري، وهو رهان قد يكون غير مضمون النتائج في ضوء أن موقف هذه الأطراف من التحول الديمقراطي في السودان موقف غير مبدئي، لكنه مجرد آلية ضمان مصالح وتحقيق أهداف بعضها مرئي وبعضها غير مرئي في نظام دولي مضطرب.